لكن لو فرضنا أنّ الإنسان أبتلي بالمعصية، فيجب ألا ييأس من رحمة الله تعالى، لأنّه قد فتح لعباده باب التوبة. فالتوبة: هي من المهذِّبات للنفس، وهي الوسيلة لغسل النفس من قذارات الذنوب، وهي عبارة عن التصميم على اجتناب الذنوب والمعاصي، والندم عليها مع الحذر الشديد من الشيطان وإغراءاته، الذي يدعونا باستمرار للاستهانة بالمحرَّمات والمعاصي والعودة إليها، وقد شجَّع الإسلام على التوبة، وحذَّر من اليأس بقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53).
1- فلسفة التوبة:
إنّ الذي عصى في هذه الدنيا وتحدَّى إرادة الله سبحانه، يكون قد إبتعد عن مقام الإنسانيّة واقترب من مقام الحيوانيّة، وعندئذٍ يحرم هذا الإنسان من بركات القرب من الله في الجنّة، ولا يبقى أمامه سوى التوبة والاستغفار، والذي أمر بالتوبة هو الذي يقبل التوبة، يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى/ 25).
2- حقيقة التوبة وشروطها:
إنّ الندم على الذنب هو توبة، لكن المقصود هو الندم الحقيقي، الذي يكون له آثاره ونتائجه على المستوى العمليّ، قد يتصوّر البعض أنّ مجرّد قوله: "تبت إلى الله" يكفي لتحقّق التوبة، وهو غير صحيح لأنّ التوبة لها شروط لا تتحقَّق إلّا بها وهي:
1- أن يشعر بالنفور من ذنبه وتغلُبه الحسرة عليه.
2- أن يصمِّم على عدم العودة إلى الذنب مجدَّداً.
3- أن يسعى لجبران ما أمكن جبرانه، كأنه يؤدّي حقَّ أحد من الناس كان قد غصبه حقَّه أو أن يطلب المسامحة ممّن استغابه، أو أن يُرضي من ظلمه، أو أن يقضي ما فاته من فرائض وواجبات، كالصلاة والصوم، وهكذا..
يقول الإمام عليّ (ع) بعد أن سمع رجلاً يقول استغفر الله: "ثكلتك أمُّك، أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان، أوّلها: الندم على ما مضى؛ والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً؛ والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقّهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة؛ والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيَّعتها فتؤدّي حقّها؛ والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد؛ والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله".
3- ضرورة التوبة:
إذا كنّا ندرك تلك الآثار الخطيرة للذنوب في الدنيا والآخرة، كأن تنزل النقم وتحبس النعم وتمنع الرزق وتجرّنا إلى العذاب الأليم، فإنّ العاقل المؤمن بالمعاد وبربِّ العباد، لابدّ أن يبادر إلى إعلان توبته، وتطهير نفسه حتى لا يكون محروماً في الدنيا وشقيّاً في الآخرة، وإنّ التوبة من الذنوب تؤدّي إلى تطهير القلوب.
عن أبي جعفر (ع): "ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14)".
4- الأمور التي يجب التوبة منها:
يجب على الإنسان أن يتوب من كلّ ما يحول بينه وبين السير والسلوك إلى الله تعالى، يجعله متعلّقاً بالدنيا، ويمكن تقسيم الذنوب التي يجب أن نتوب منها إلى قسمين: أخلاقيّة وعمليّة:
أ- الذنوب الأخلاقية: والمراد بها الأخلاق السيِّئة والصفات القبيحة، التي تلوّث النفس وتجعل الحجب بينها وبين الله تعالى، كالرياء، والنفاق، والغضب والتكبّر، والعجب، والمكر، والخداع، والغيبة، والبهتان، والكذب، وخلف الوعد، وعقوق الوالدين، وقطع الرحم، والتبذير، والإسراف، والحسد، والفحش، والسباب وسوء الظنِّ، وتتبّع عيوب الناس، واحتقار المؤمن وإذلاله، وغير ذلك من الصفات السيئة.
ب- الذنوب العملية: وهي كلّ الذنوب التي ترتبط بالأعمال كالسرقة، وقتل النفس، والزنا، ودفع الربا وأخذه، وعصب أموال الناس، والغشّ في المعاملة، والفرار من الجهاد، وخيانة الأمانة، وشرب الخمر، وترك الصلاة والصيام والحجّ والخمس، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكل الطعام النجس وغير ذلك من المحرّمات.
5- ثمار التوبة:
للتوبة ثمار جليلة في الدنيا وفي الآخرة أهمّها:
أ- تكفير السيِّئات ودخول الجنّة: إنّ التوبة تؤدِّي إلى إزالة سيِّئات الإنسان من صحيفة أعماله، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) (التحريم/ 8).
ب- محبّة الله: إنّ التائب الحقيقي سوف يحصل على محبّه الله تعالى وينال رضاه، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).
ت- الستر: إنّ توبة العبد تؤدِّي إلى الستر عليه، فيأتي يوم القيامة لا يُدرى بذنبه، يقول الإمام الصادق (ع): "إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أحبَّه الله فستر عليه، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه، ويوحي الله إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض أن اكتمي عليه ذنوبه، فيلقى الله عزّ وجلّ حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب".
- الخلاصة:
1- أفضل سبيل للتزكية عدم المعصية.
2- فلسفة التوبة أنّها تفتح باباً للرحمة والقرب من الله.
3- حقيقة التوبة الندم الذي يستلزم ترك الذنب وتأدية الحقوق.
4- من يدرك خطورة الذنب لابدّ أن يقدم على التوبة.
5- ما يجب التوبة منه ليس فقط الذنوب العمليّة كالسرقة وقتل النفس والزنا. بل أيضاً الذنوب الأخلاقية والرياء والنفاق والغضب.
6- للتوبة ثمار كثيرة، منها تكفير السيِّئات وتبديلها إلى حسنات ومحبّة الله والستر و..
المصدر: كتاب دروس في تزكية النفس (سلسلة المعارف الإسلامية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق